يعج الإنترنت بكل أنواع البروتوكولات والبرمجيات، ومؤخراً تعج الأحاديث على الإنترنت بكلمات مثل الذباب الإلكتروني والبروباغندا، أما الذباب الإلكتروني فهو يشير إلى مزيج من المستخدمين البشر وبرمجيات تتفاوت في التعقيد اسمها «بوت»، يعرف القارئ ما لم يكن هو «بوت» ما يكفي عن البشر لذا ستحاول هذه المقالة توضيح ماهية «بوت» وتصنيفاته واستخدماته، مرتكزة على كتاب Bots لكاتبيه نِك موناكو وصاموئيل وولي، والهدف من ذلك هو رفع الوعي لدى المستخدم بمحيطه الرقمي بما أنه قد أمسى يقضي الكثير من وقته هنا.

ينقسم الكتاب إلى عدة فصول تعالج الموضوع وفق سياقات مختلفة، أولها الأثر الاجتماعي للبوتات مروراً بالأثر السياسي وتوظيفها في السياق الاقتصادي وتقاطعها مع الذكاء الاصطناعي والأبعاد النظرية لاستخداماته. يسلط الكتاب الضوء على كيفية دخول البوتات إلى نواحي الحياة المختلفة مثل الأخبار حيث باتت البوتات قادرة على كتابة المقالات الروتينية مثل أخبار الرياضة ونتائج المباريات، أو في عالم المواعدة إما من قِبل الشركة لتعطي انطباعاً مزيفاً عن عدد المستخدمين من أحد الجنسين أو من المستخدمين أنفسهم لخداع بعضهم أو ببساطة لتسهيل عملية التواصل. وكذلك نجد البوتات في عالم الألعاب وخصوصاً تلك التي تتيح المجال لجني المال، مثل المقامرة أو الألعاب التي تحتوي على مقايضات مالية تبيع فيها الأدوات أو الشخصية الرقمية مقابل ثمن حقيقي، كلما طال مكوثك على الإنترنت زادت احتمالية تعاملك مع بوت بشكل مباشر في أحد أزقة الرقمية وحتى لو لم تدرك ذلك فهي تشكل عماد البيئة السيبرانية حولك.   
 

 

يرقانات الروبوتات   
 

مصطلح «بوت» — والذي سيستخدم مُعرّباً في هذه المقالة — مختصر من كلمة روبوت، وهو يشير إلى برمجية تؤدي وظائف معينة وتشكل الفَونة في بيئة الإنترنت والعالم الرقمي كما نعرفه، التعريف عام وصعب لتوضيح البوت مثل صعوبة تعريف الذكاء الاصطناعي، لذا ستعمل المقالة بتعريفه بشكل عكسي عبر توضيح وظائفه وإعطاء نبذة عن تاريخه.

في فجر الإنترنت أي في أيام ال"usenet" وقبل أن يتحول لما نعرفه اليوم، اقتصر التواصل فيه على النصوص وكان مستخدموه جهات حكومية وأكاديمية وهواة من المبرمجين. كان البوت في تلك الأيام برمجية تعمل ببساطة على نشر ومسح المنشورات، إذا أراد المستخدم مسح منشوره علّمه ليأذن لذاك البوت بمسحه. وعندما اكتشف المستخدمون أن القليل من العبث يسمح لهم بوضع العلامات على منشورات غيرهم نشأت أول حالات الحظر وطمس المحتوى، ومعها مباشرة ولد رفض هذا الحظر، ومن أمثلة هذا النزاع المبكر هو في معركة إلكترونية بين طائفة البقرة الميتة وكنيسة السيانتولوجيا التي حاولت أن تمسح كل ما يؤذي سمعتها.

بعد عدة سنوات من نشأة "usenet" ظهرت أول برامج محادثة "Internet Relay Chat" والمختصرة "IRC"، والتي جعلها مبرمجها الفنلدني مفتوحة المصدر. من الطبيعي أن أول المستخدمين لهذا النوع من البرامج ملكوا خبرات برمجية متقدمة مما جعلها بيئة مناسبة لابتكار العديد من البوتات، ومنذ البداية انقسمت أداورها بين النافعة والضارة. مثلاً بحكم طبيعتها كانت قنوات المحادثة تتوقف كلياً ما لم يلج فيها مستخدم بشري، ولذلك بُرمِجَ بوت ليحل محل المستخدم البشري مما يترك القناة قائمة حتى لو غادرها كل المتحدثين ولو لحين. في المقابل ابتكر القراصنة بوتات تثير دوشة في الدردشة "annoybots" مما تطلب تخصيص بوتات لمواجهتها والحفاظ على التوازن البيئي وهكذا دواليك.

مثال آخر على استخدام البوتات كي تَفُلَّ البوتات وقع في ١٩٩٤ حين استعان محاميان بمبرمج ليبث دعاية لمكتبهم، سعى المبرمج لأتمتة نشر الدعاية وتمكن باستخدام بوت من نشرها على ٦٠٠٠ موقع في غضون ساعة ونصف، هذا أثار حفيظة المستخدمين ودفع مُبرمِجًا آخر ليعدل على بوت الحذف كي يشطب تلك الدعاية.

التطورات في عالم البرمجة والحاسوب تدين لعالم الألعاب بالكثير، قد تحدثنا سابقاً عن العلاقة بين تطور الذكاء الاجتماعي والسباق في تصميم البرامج التي تتفوق على اللاعبين البشر، ويمكننا أيضًا الإشارة إلى استخدام كرت الشاشة الذي صنع في الأصل لأجل الألعاب. عالم البوتات ليس استثناءًا لهذه العلاقة، فالألعاب أول بزوغها كانت ذا طبيعة نصية مما جعلها عشًا مناسبًا لتكاثر البوتات، والمثال الأشهر هو جوليا.   
 

هجنة الذكاء الاصطناعي

ينتقل الكتاب لموضوع البوت والذكاء الاصطناعي في فصل متأخر لكنني اخترت التبكير بالحديث عنه لإماطة انطباعٍ خاطئٍ قد يتولد عند البعض، يتقاطع عالم البوتات مع الذكاء الاصطناعي بطرق مثيرة للاهتمام لكن التعريفات الفضفاضة لكلا المصطلحين قد تؤدي للانطباعات الخاطئة وبالعروج على التقاطعات لعلنا نقترب من الوجهة الصحيحة.

إحداها هي أن المبرمجين أمسوا يوظفون التعلم الآلي كي تمسك البوتات بالبوتات التي تحاول خداع المواقع والتطبيقات. هذه الحماية تشبه تلك التي توظفها خلايا النحل حيث تستطيع تمييز النحل الأصلي في الخلية من النحل الذي يحاول التسلل إلى خليتهم، نظام الحماية على المواقع الذي يمنع البوتات لا بد وأنك مررت عليه مئات المرات وهو نظام”CAPTCHA”. كل مرة تتردد في اختيار طرف الشاحنة فأنت تحاول إقناع الموقع بأنك بشري ولست بوتًّا. وكما لاحظت فإن البوتات تتأقلم وتتمكن من حل تلك الألغاز مما يدفع المبرمجين لتصعيبها عليهم وعليك بالمعية.

التقاطع الثاني وقع فيه حادث شهير، حادث تاي، وهو بوت برمجته شركة مايكروسوفت وتركته ليتعلم من محيطه وما هي سوى ساعات حتى عاد يتفوه بأفظع الكلمات متأثرًا برفاق السوء، مما اضطرهم لحبسه وعدم التجرؤ على إطلاق أي مثيلٍ دون قيود.

التقاطع الآخر وليس الأخير هو الأكثر شهرة، وهو استخدام الذكاء الاصطناعي في بوت المحادثة، هذا النوع يحلل اللغة البشرية عبر معالجة اللغة الطبيعية “Natural Language Processing” NLP ويتلقى الأوامر الصوتية عبر واجهة محادثة المستخدم “Conversational User Interface” CUI، وهو مفيد في تلبية الأوامر المحصورة في مجالات معينة، المثال الأشهر على هذا التطبيق هو المساعد التقني «سيري» لكنه ما زال حديث السن ولا يمكنه فهم كل شيء تقوله لأنه يفتقر للتجربة البشرية الكاملة، لهذا يُعرَّف بأنه محدود المجال Closed-Domain. ببساطة هناك الكثير من المعلومات التي نملكها ونتملكها مع التجربة البشرية العادية مثل هشاشة الزجاج ونوع الملابس المناسبة لكل مناسبة وطقس، البوت أو حتى الذكاء الاصطناعي عليه تعلم كل ذلك وهذا ما تسعى لفعله شركة غوغل، لكن التجربة البشرية ما زالت أضخم من أن تصنف كلياً وتٌقدم للبوتات على طبق من ال Object Ontology، الحلم هو أن ينفتح المجال ليصبح البوت قادراً على فهم ما يكفي لتتفتح المجالات كلها أمامه Open-Domain.   
 

 

تمويه البوت

عند الحديث عن البوت الذي يحدثنا يخطر في البال تفاوت قدرتها على محاكاة المحادثة البشرية، وأغلب الظن أنك تعاملت مع أحدها وأعجبك أداؤها أو سعيت إلى الوصول لموظف بشري بأسرع وقت ممكن تفاديًا لرداءة الأداء، هذه البوتات المخصصة للمحادثات تختلف وفق برمجتها ولا تعتمد كلها على الذكاء الاصطناعي كما يظن البعض. أكثرها رواجاً هي من ذرية إليزا وهي تعتمد على قائمة من القواعد وبأحسن الأحوال توهم المستخدم بأنها تفهم ما يقول (وهذا يُعرف بتأثير إليزا)، بينما تبحث في الخلفية عن كلمات معينة في ردودك كي تستحضر جملاً بصياغات معدة مسبقًا. هناك نوع آخر يمتلك المزيد من المرونة في التفاعل لأنه يعتمد على محصول من المحادثات السابقة “Corpus” وعلى المنطق العائم Fuzzy Logic، مما يقلل حاجته للبحث عن كلمة بعينها ويكفيه أي شيء يقربها يشبه ما يحمل في جعبته. أحد الأمثلة على هذا النوع هو “Cleverbot”.

 

البوت والبدلة

البوتات التي تتحدث معنا هي ليست الوحيدة الموظفة في الشركات، في الحقيقة معظم البوتات الشركاتية تعمل دون محادثات طويلة أو وراء الكواليس وتؤتمت المعاملات التجارية والمقايضات وما إلى ذلك. تلك التي تعمل على الواجهة front end تسهّل الإجراءات الروتينية مثل تأكيد وصول الحوالة أو التحقق من هوية المستخدم أو تسعير خدمة ما، أما التي تعمل في الخلفية back end فهي تتعامل مع بوتات من أطراف ثانية، مثلا تنقل الحوالة بالتعامل مع بوت بنكي أو تقرأ آخر أسعار السلع والصرف. البوتات العاملة في مجال المحاسبة هي أيضاً تعمل على أتمتة الوظائف المملة المتكررة مثل تسجيل المقايضات وإرسال التقارير الاقتصادية، وتعالج أحجاماً هائلة من البيانات التي لا يمكن للموظف البشري معالجتها.

لذلك هناك ثلاثة أنواع مختلفة منها، أولها يحاكي المقايضات وفقًا للسجلات القديمة كي يجد أفضل السيناريوهات، ثانيها يقايض عند توفر بعض الشروط في الأسواق مثل وصول سعر بورصة ما لنصاب معين، وثالثها بوتات المراجحة، والتي تراقب العمولات والمقايضات وتقايض بنفسها وفق المعطيات الاقتصادية.

كما تستخدم الشركات البوتات العنكبوتية التي تجمع المعلومات عبر الزحف في زوايا الإنترنت، عندما صار الإنترنت أقرب لما نعرفه اليوم وتزايدت أعداد المواقع وأكوام البيانات استحال على المستخدمين الإلمام بما فيه، ولذلك استعانوا ب"العناكب" التي تزحف عبر المواقع وتجمع المعلومات عنها لتساعد في فرزها وتصنيفها وتسهيل الوصول إليها. وهذا ما جعل غوغل الشركة العملاقة التي نعرفها. هذه المعلومات قد تنقلها للمستخدم بوتات معلوماتية، تعمل على تلقي أسئلة محددة والإجابة المباشرة عليها مثل حالة الطقس أو وصفة الطعام وهي تعطي المعلومات وفق أوامر محددة وتختلف بذلك عن التي ذكرناها سابقًا من بوتات المحادثة التي تأخذ وتعطي.

مقابل المعلومات هناك بوتات الترفيه، تصنيف الكتاب للبوتات المرتبطة بالترفيه مرتبك قليلاً، فهذا الصنف لا يعني البوت الذي يرفّه المستخدم بالضرورة كما يُوحي الوصف، وإنما هو الصنف الذي يعمل في مجالات ترفيهية، مثل بوت ينجّم الموارد في لعبة ما (ماينكرافت أنموذجاً) أو ينشر النكات ويمكن استخدامه لجني المال، ومع أن الاستخدام الثاني هو أقرب لما قد يخطر في البال عندما نسمع عن "بوت في عالم الترفيه" لكن السياق الأوسع في هذا الفصل هو الربح ولذلك أجد علة في هذه التسمية.   
 

البوت في أروقة سياسية   
 

يتطرق الكتاب لبعض النظريات التي تسعى لموضعة البوتات في شبكة العلاقات البشرية، البعض يعتمدون نظرية ANT actor network theory والتي تصبغ كل شيء في الشبكة كما لو أنها فاعلٌ وليس مفعولًا به فحسب. هذا ينطبق على البوت وعلى برمجته وبالتالي على دوره في الشبكة. هناك نظرة مختلفة استخلصها باحثان من مقابلات مع مبرمجي البوتات تنص على أن البوتات بمثابة نواب عن مبرمجيهم وهذا يعني أنهم متصلون بهم ومنفصلون في آن واحد.

هذه الاستخدامات نافعة كانت أم ضارة ما زالت تعكس قرارات مصمميها أو مزيجاً من تلك القرارات والأخطاء في التصميم وامتصاص اسموزي للبيئة التي تنطلق فيها، ولا يمكن القول بأن البوتات بنفسهم يملكون حرية الاختيار لكنهم حتماً يؤثرون على المستخدمين وما زال الوقت مبكرًا لندرك مدى الأثر، حسنًا بسنًا كان أم قبيحًا شقيحًا.

لعل أهم مجالات عمل البوتات وأكثرها حساسية هي مجال السياسة، تتدخل البوتات في السرديات السياسية عبر أبواب مختلفة، مهمتها تتمحور حول وضع حدود للنقاش بما يتوافق مع الجهة التي بثّت سرب البوتات، يضرب الكتاب المثل بما حصل بعد اغتيال بوريس نيمستوف الروسي وجمال خاشقجي السعودي، وكيف حاولت الأسراب من إزاحة اللوم عن الحكومات المجرمة.

للإحاطة بالحملات التي تشنها البوتات يمكن الاستعانة بنموذج ABC والذي يعاين الفاعلين Actor وراء الحملة وسلوكهم Behavior والمحتوى Content. ويقول الكتاب بأن الواقفين وراء الحملة هم أهم عنصر في فعاليتها، لأن هذه الحملات تزداد تعقيدًا وكفاءة كلما زاد الاستثمار المالي فيها، وهو أمر صعب على منظمات حقوقية وناشطين ويسير على الحكومات، ولذا يمكننا القول بأن الحكومات في الدول الثرية أو العظمى هي الأقدر على شن مثل هذه الحملات.

الوظائف الأساسية لمثل هذه البوتات هي في استغلال الخوارزمية والعبث بالسرد ومراقبة البيئة السيبرانية. بالنسبة لاستغلال الخوارزمية فهذا يعني أنك بعد فهم آلية عملها تتمكن من رفع رصيد رسالتك السياسية، يمكنك خداع محركات البحث كي تُصدّر الصفحات التي تريد، وفي سياق التواصل الاجتماعي يمكنك زيادة الانطباعات (أي عدد المستخدمين الذين سيقرأون منشوراً ما أو يتعرضون لحسابات ما) بتضخيم الحساب واستخدام متابعين مزيفين وهو ما فعله عدة سياسيين مثل السياسي الأمريكي نيوت غينغريتش في ٢٠١١.

الوظيفة الثانية هي العبث بالسرد وهي تحصل عبر التثبيط Dampening أو التضخيم Megaphoning. قبل الإنترنت كان الحظر يعتمد على ندرة المعلومات، وذلك بمنع الوصول إليها أو تصعيبه، أما على الإنترنت تنقلب الصورة فيعتمد التثبيط  على التخمة، وفرة وكثرة المعلومات تصعب استيعابها أو فرزها من قِبَلنا كأفراد. لذلك يمكن للمتلاعب تلويث وخطف الوسم أو إزاحته على مواقع التواصل الاجتماعي، كل ما عليه فعله هو أمر البوتات بأن يغرقوا الوسم الذي يريد خطفه بمنشورات مضادة أو محايدة لا شأن لها بموضوع الوسم، أو يمكن ضخ المنشورات لرفع وسم مغاير كي يزيح الوسم المستهدف. هذه التكتيكات اسمها Hashtag displacement, polluting & hijacking.

إذا أردت أن تعمل بشراسة أكثر يمكنك تعطيل موقع الهدف كليا عبر هجمة الحرمان من الخدمة ddos، ولهذا تستخدم البوتات كأنه سرب من الجراد، ومن أجل الحصول على هذا السرب قد تحتاج لقرصنة كم هائل من الأجهزة ولا داعي لأن تكون كلها أجهزة حاسوبية، مع تغلغل "الأنظمة الذكية" في حياتنا وما يعرف بإنترنت الأشياء Internet of Things IOT قد تصبح أي أداة تكنولوجية مثل كاميرا المراقبة مثلًا سلاحاً في غمد القرصان السيبراني، هذه الهجمة المؤقتة يمكن مجابهتها برفع السعة الاستيعابية للموقع أو بمعنى آخر بتوسعة الحقل لاحتواء السرب وباقي المستخدمين في الوقت ذاته.

بالنسبة للمراقبة هناك أنواع مختلفة قد تستخدم بحياد وهناك نوعان منها، أحدها يجمع المعلومات بالخفاء ودون حس، ويستخدم صاحبه ما جُمِعَ لاحقًا. بعض المواقع تتيح المجال لجمع معلومات من باب الشفافية، وفي سالف العصر بدأت عادة استخدام معيار استبعاد الروبوتات Robots.txt وهي مثل علامة على باب المحل التجاري التي تطلب من الزبون عدم الشراء بالدين، على الإنترنت تطلب العلامة باحترام عدم تمشيط المعلومات في الموقع. هذه العلامة ليست مُلزمة وتقوم العادة على الثقة بين المبرمجين أي أنها لا تمنع القراصنة. مع توسع الإنترنت صار حجم المعلومات المتوفرة عظيماً وصار المحتوى المكشوف يكفي للتمشيط وبناء نماذج وأنماط مفيدة دون الحاجة لاختراق أي حاجز أو التعدي على خصوصيات المواقع، وبهذا جاء النوع الثاني والقادر على فرز المعلومات ويعرف بالاستخبارات مفتوحة المصدر OSINT open source intelligence   ولأهميته طالب مسؤول سابق في الاستخبارات الأمريكية تخصيص وحدة كاملة لأجله.

بعض البوتات بسيطة ويمكن كشفها بسهولة لكن عندما يتدخل مستخدم بشري يصبح الكيان «سايبورغ» وتصعب مهمة كشفه. هذا المزيج قد يحصل أحيانًا دون معرفة المستخدم، عندما يعطي الصلاحية لتطبيق يستخدم حساباته وقد تبث التطبيقات رسائل موحدة في توقيت معين مما يعطي انطباعًا خاطئًا لدى باقي المستخدمين عن مدى انتشار الرسالة ومصداقيتها على أرض الواقع، لأنهم موقنون بأن حساب هذا المستخدم ليس بوت. أما عندما يعمل المستخدم بشكل واعٍ برفقة البوت لبث الرسالة فهو في العادة ما يشار إليه عندما تسمع بمصطلح الذباب الإلكتروني، ذلك يحصل وفق رغبة الجهة السياسية التي تحركهم مباشرة أو التي تتعاقد مع شركات سرية توظف هذه التقنيات نيابة عن الجهة السياسية.

 

 

مستقبل البوتات

يختتم الكتاب بطرح أسئلة مستقبلية على المهتمين والباحثين في مجال البوتات إجابتها، كما يشير إلى أنماط يجب التنبه لها، مثل ربط مفهوم البوت بالذكاء الاصطناعي وهو ربط يعطي انطباعًا خاطئًا ويؤثر على استيعابنا للبوتات وكيفية التعامل معها، معظم البوتات السياسية تؤدي وظيفتها على أكمل وجه دون الحاجة للذكاء الاصطناعي، فهي تكرر رسالة سياسية أو تضخم أو تثبط الرسائل والحسابات.

معالجة اللغة الطبيعية NLP سوف يلعب دورًا مهمًا في الفترة القادمة وخصوصاً الأوامر الصوتية التي تمكننا من إملاء الأوامر شفهيًا، وهذا التطور الذي يسهل على المستخدم عمله قد يعطي أنظمة المراقبة قوة خارقة، فلو تمكنت الأجهزة من استيعاب اللغة البشرية حق الاستيعاب، ما هو سوى أمر من جهة أمنية حتى يتحول الجهاز إلى أداة للتنصت والتقاط أي شيء يخالف القانون، وربما تستخدمه الشركات كي تتجبر على موظفيها وتمنع أي نوع من التسريبات.

كما ينبه الكاتبان في آخر المطاف من مسألة إطلاق القوانين الفضفاضة التي تسعى لمنع السلوكيات السيئة للبوتات، ويؤكدان على ضرورة الدقة في التعريفات القانونية كي لا تتضرر بيئة الإنترنت كما نعرفها بسبب إثقال البوتات بالقوانين. بعد أن وضّح الكتاب — ومن المفترض هذه المقالة — أن الإنترنت يعتمد على البوتات في بنيته التحتية والكثير من الوظائف الخفية، ولهذا هناك مسار آخر قد يتبعه المبرمجون لتحسين عمل البوتات، وهو بتحويل الإنترنت إلى ما يعرف بالشبكة الدلالية Semantic Net. ببساطة، الإنترنت كما نعهده مُصمَم للاستخدام البشري أي للإدراك البشري، الهدف هو تحويله إلى شبكة من الدلالات لتستوعبها البوتات مما يسمح للتواصل الفعّال بينها.

من أهم ما ورد في الكتاب هو قدرات المجتمعات المدنية وإن كانت متواضعة في تسخير البوت لمصلحتها، مثل التجربة الإسبانية Botivist أو البوت الناشط، والذي سعى لنشر رسائل ضد الفساد ولتعريف الناشطين على بعضهم. وكذلك حساب أتمته الأسترالي نايجل ليك للرد على المشككين في الاحتباس الحراري. وكذلك يمكن استخدام البوت لتتبع أي تغيرات تجريها جهات حكومية على موقع مثل ويكيبيديا أو جمع المعلومات لتسهيل مهمة الصحفيين. هذه الأمثلة كلها وغيرها توضح أن أي ناشط جاد في مجابهة الفساد السياسي يمكنه الاستعانة بالبوتات والابتكار في استخدامها لرأب الهوة في الإمكانيات بين الناشطين والحكومات.   
 

ملاحظات العبد الفقير عن الكتاب

ما لفتني في الفقرات الختامية لأكثر من فصل وحتى في خاتمة الكتاب هو الزعم بأن المشكله الأساسية عندما يتصرف البوت بطريقة غير ملائمة هي تحت مسؤولية مستخدم البوت أو مبرمجه، ولكن يمكن الرد على هذا بعدة حجج، أهمها هو أن استخدام البوتات حتى لو كان حميدًا فهناك تبعات سيئة بعيدة المدى أو على أقل تقدير هي سوف تعيد ترتيب العالم بطريقة لا ندرك أثرها بعد، مثلًا الكاتب يتحدث عن سوء بوتات خدمة العملاء وأن الشركات تخسر زبائن لو ساءت تلك الخدمة، لكن حتى لو تخيلنا أفضل البوتات ألن يعني ذلك تقليل التعامل مع البشر وتسريح الموظفين؟

لفتني أيضًا استدراك الكتاب عند وصف سقف إمكانيات البوت، البوت قد لا يتمكن من صناعة محتوي إخباري يملك الدقة البشرية في التهكم أو النقد المجتمعي أو عن المعاناة، وأقول أن الكثير من النقد المستقبلي على هذه الشاكلة ربما يغفل عن السبيل المختلف لوصول البوتات إلى تلك الامكانيات، ربما لا يحتاج البوت ليصل ما وصل إليه البشر اليوم لكن طبيعة الحياة في ظل السطوة التكنولوجية ستجعل الإنسان نفسه ينحدر ليصل إلى الإمكانيات المتواضعة للبوت. لاحظ أن الكثيرين يتحدثون عن انحدار في استخدام اللغة، وأضف إلى ذلك أن انتشار برمجيات الاقتراحات اللغوية ما زال في فجره، لاحقاً ستتربى الأجيال وهي تكتب وتسمح للبرمجيات بإكمال الجمل عنها، سواء اقتراح كلمة أو ترك مهمة الكتابة كليًا لها، وعندها تحيطنا هذه النصوص وتصبح مرجعية، وما نعتبره اليوم دقة بشرية يصبح أسلوب كتابة أثري يُترك إما لمحاججة ضده أو بانسياب الدهر والظروف التي لا نستطيع مقاومتها إذا تهاوننا في ذلك. باختصار لن نكتشف الأثر إلا بعد بلوغ الأجيال المتربية في أحضان هذه التطبيقات.

كما أن التركيز على حياد البوت أو نسب الخير له والشر لمبرمجيه يتجاهل تضخم القدرات لارتكاب المساوئ، مثل المساعد التكنولوجي الذي يعطي الحكومات قدرات لم تخطر في أحلام أعتى الأنظمة الدكتاتورية مسبقًا. يعطي الكتاب أمثلة عن بوتات تحيد في نظره عن استخدامها المنشود، مثل بوت كانت النية من برمجته تغريد جمل صحيحة بشكل عشوائي وانتهى به المطاف بتهديد يعبّر فيه عن رغبة بقتل مجموعة من البشر. هذه الحادثة تفتح المجال للتفكير باستقلالية البوتات لكنها حتمًا تضع علامة استفهام على محاولة تبرئة البوتات وهي مسألة لا يمكن الاستخفاف بها في المجال التكنولوجي، لو كان للبوتات صلاحية أكبر وأدت صلاحيتها إلى أذى حقيقي يصبح سؤال المحاسبة ضرورياً، على من اللوم؟ على البوت وإن كان في ذلك تحاملًا على البوتات بعد أنسنتها؟ أم على مبرمجه أم على مستخدمه؟ أم تطوى القضايا وتعتبر كأنها خطأ برمجي لا مسؤول وراءه وبالتالي لا حق يسترد للضحايا؟ سؤال مثل هذا يطرحه الكتاب ثم يتناساه عند تكرار حيادية البوتات في عدة مواضع.

أنصح بقراءة الكتاب للمهتمين والمتخصصين لكن أظن أنه ممل لغيرهم، إذا كنت مهتمًا في عالم البوت ولست من أهل الاختصاص لا تقلق فهذا الكتاب سلس ولا يتطلب علوما تقنية. أخيرًا أود أن أقول بأنني إن تعلمت شيئًا من هذا الكتاب فهو أن البوتات هي بالفعل تشبه الحشرات، لا تقوم الطبيعة ولا تكتمل البيئة دونها، لكنني لا أفضّل تواجدها في كل مكان حولي، وخصوصًا في طعامي.