هناك الكثير من الأدلّة الإرشادية التي توضِّح طرق حماية الخصوصية على الإنترنت، ولكن لا يتطرق أيٌّ منهم إلى سبب وجود هذه الأدلّة من الأساس. السبب بسيط، ألا وهو أن الخصوصية مهمشة، إذ لا يعطي الناس الخصوصية ما تستحقه من اهتمام. إليك الأسباب. 
 

لا تبدو تهديدات الخصوصية واضحة 

رغم المحاولات الأخيرة لتنظيم معالجة البيانات الرقمية (مثل «اللائحة العامة لحماية البيانات» (GDPR) ضمن الاتحاد الأوروبي)، ورغم انتهاكات الخصوصية المتكررة، لا يزال ليس واضحًا لماذا تُهدِّد هذه الأمور خصوصيتنا. عندما تَجمَع الشركات بيانات عن الأفراد، فإنها تتمكن من تكوين صورة فائقة الدقّة عنك. على سبيل المثال، في هذه الدراسة، يُوضِّح الباحثون أن طريقة «فيسبوك» في التصنيف (استنادًا إلى الإعجابات) تُعَدّ أدَقّ في وصف شخصيِّات الأفراد من وصف أصدقائهم لهم. علاوة على ذلك، توضح الدراسة القوة الخارقة التي يتمتع بها التصنيف الرقمي خارج الإنترنت. فهو يتنبأ بمعلومات حياتنا الواقعية بدقّة عالية مثل الآراء السياسية، والحالة الصحية، وغيرها الكثير. هذا أحد الأسباب التي تجعل عدم التغافل عن الخصوصية الرقمية أمرًا بالغ الأهمية. يُمكِّن التتبُّع وجمع البيانات الشركات من بناء نموذج سلوكيّ شامل عنك، ما يمنحها قدرًا كبيرًا من السلطة.

لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ الجهات التي تجمع البيانات لا تريدك أن تعلم أنّ هذا التصنيف الرقمي موجود في كل مكان تقريبًا على الإنترنت. بحسب هذه الورقة البحثية، فإن ٨ من كل ١٠ مواقع ضمن قائمة المليون الأشهر عالميًا تَستخدِم أدوات التتبُّع الخاصة بـ«غوغل»، و٤٠٪ تقريبًا تستخدم أدوات تَتبُّع من «فيسبوك». هذه المنظومة الضخمة لجمع البيانات ترصد كل سلوك لنا على الإنترنت، أينما ذهبنا وأيًّا كان ما فعلناه. 
 

ما تُقدِّمه الخصوصية لنا نعتبره أمرًا مُسلَّمًا به 

تُحقِّق الخصوصية التوازن في القوى بين الدولة ومواطنيها. وقد وصف جورج أورويل هذا الأمر في كتابه الشهير ١٩٨٤. فالنظام يُسيطِر على الشعب عبر انتهاك خصوصيتهم بطرق متعدِّدة. كاميرات في كل غرفة تُسجِّل كلّ ما يقوله ويفعله الناس، وإذا خالف أي عمل (أو خالفت محض فكرة!) مصلحةَ الدولة، يُعتَقَل الجاني من شرطة النظام. تسمح المراقبة الشاملة للدولة بأن تتأكَّد من أنّ الشعب لن يثور ضدّها. والأمر نفسه قد يقع على الإنترنت. على سبيل المثال، «غوغل» تساعد السلطات الأمنية بتسليمهم بيانات المواقع الجغرافية للمستخدمين. بينما تكفل الخصوصية حالة من التوازن مع الدولة. 
 

يستحيل علينا أن نضمن الخصوصية على الإنترنت، أليس كذلك؟ 

رغم أن الناس قد يقتنعون بأن الخصوصية مهمة (وهي فعلًا كذلك!)، إلّا أنهم قد يظنّون أنها مجرد سراب لا يمكن الوصول إليه، إلّا إذا عاشوا في كهف بلا أي أجهزة متصلة بالإنترنت. كما أن الفضائح المتكررة المتعلقة بالخصوصية تُسهِم في تأكيد هذا التصوُّر الخاطئ. ليس من المُفترَض أن تُنشَر بياناتك الرقمية للجميع دون إذنك. ومع تطوُّر القوانين المنظِّمة للبيانات، بات جامعو البيانات مُلزَمين قانونًا بتوضيح نواياهم وبأن يحصلوا على موافقة المستخدمين.

كما أن هناك منصات جديدة تهتم بالخصوصية وتُطوَّر باستمرار كبدائل للمنصات التي تحشر أنوفها في حياتنا. فمثلًا، قاعدة مستخدمي «ماستودون» (بديل «فيسبوك») في تزايد مستمر، ومحرك البحث «دَك دَك غو» (بديل «غوغل») يُسجِّل أكثر من ٣٥ مليون عملية بحث يوميًا. لا تستخدم هذه المنصات أدوات تتبُّع، وفي حال استخدمت أدوات التتبُّع تكون شفافة إزاء ذلك. 
 

الخصوصية ليست مسألة شخصية فحسب

أحد أهداف جمع البيانات هو ربط الأشخاص ببعضهم. وهناك العديد من الطرق لتحقيق ذلك. أبسطها هو جمع بيانات الأصدقاء وجهات الاتصال. وبما أن معظم الناس لديهم حساب على «فيسبوك» (وما نراه من صداقات رقمية هو غالبًا انعكاس للعلاقات الواقعية)، فمن السهل أن نستنبط ما قد يُعجِب شخصًا ما أو ما يفكر فيه من علاقاته بالآخرين. ينطبق الأمر نفسه على جهات الاتصال في الهاتف أو أي نظام مراسلة. كما أن مراقبة بيانات الموقع الجغرافي تسمح باستنتاج طبيعة العلاقات بين الأشخاص. إذا التقت مجموعة من الأشخاص باستمرار في نفس الأماكن، فمن المرجَّح أنّهم أصدقاء. ويمكن لجامعي البيانات أن يستنتجوا اهتمامات أي شخص بالنظر إلى اهتمامات المجموعة التي ينتمي إليها. علمًا بأنه من السهل أن نحصل على بيانات المواقع الجغرافية من الهواتف الذكية.

التتبُّع ينتشر مثل عدوى رقمية. بمجرد بدء تتبُّع شخصٍ ما، يمكن للنظام أن يُكوِّن صورة نمطية عنه، وأن يعرف المزيد عن معارفه. ولهذا السبب، يجب أن تكون الخصوصية همًّا جماعيًا. 
 

لا نريد أن نقبل بالتضحيات التي تأتي مع حماية الخصوصية 

قد يستخدم الناس تقنيات تنتهِك الخصوصية لأنها، بصرف النظر عن التتبُّع، جيدة جدًا وسهلة الاستخدام. قد تكون الخدمة ”جيدة“، لكن للتتبُّع ثمن يجب أن يؤخَذ بالحسبان. أولًا، قد لا نعرف مدى تفشّي هذه الممارسة. قد يوافق البعض على مشاركة معلومات أجهزتهم، لكن دون أن يشمل ذلك بيانات بريدهم أو البيانات الوصفية. قد نقبل بمشاركة اسم المدينة التي نعيش فيها، لكن ليس موقعنا الدقيق في أي وقت. غالبًا ما تكون الجوانب التي تُراقَب ضبابية عن عمد، حتى لا نعرف تحديدًا ما الذي سلّمناه من بياناتنا.

ثانيًا، يمكن أن يُفسِد التتبُّع الخدمة نفسها. الجهد المسكوب على هندسة الإعلانات المستهدَفة كان من الأجدر تكريسه لتحسين جودة الخدمة. فهل الخدمة جيدة فعلًا أم أن كل شيء مُصمُّم لنظنّ أن الاقتراحات التي نتلقّاها هي ما نحتاج إليه فعلًا؟ إذا كان نموذج العمل قائمًا على بيع الإعلانات المخصَّصة، فربما لا تفيدنا تلك الإعلانات من الأصل، ولا تُحسِّن من تجربة المُستخدِم.

في عالمنا الرقمي، ربما لم يطأ المستخدمون يومًا بيئةً خالية من التتبُّع. وربما لم يستخدموا من قبل خدمة تحترم الخصوصية وتمنحهم السيطرة. لذا قد يفوتهم مدى سوء الوضع في المنصات الشهيرة التي تراقب كل نقرة وكل تفاعل وتُحوِّله إلى مال. وغالبًا ما تُصمَّم هذه الخدمات بصورة تخدع المستخدِم ليُسلِّم المزيد من بياناته. لذا قد لا ندرك جمال استخدام منصة لا تحاول أن تخدعنا أو تستغلّنا في الخفاء. لو كان ”الثمن“ هو استخدام خدمة أقل شهرة (لكن يسهل إعدادها) مقابل تجربة استخدام أفضل بكثير، فقد يُصبح من السهل جدًا أن تتقبَّل هذا الاختيار. 
 



تمت إعادة نشر هذا المقال وفقاً لرخصة المشاع الإبداعي - Creative Commons، للإطلاع على المقال الأصلي