عندما يجهل الشباب أثر حركة بياناتهم، يصبحون ضحايا لهيمنة البيانات.

 

أصبحت البيانات بمثابة عُملَة العالم الحديث في عصرنا الرقمي، وهي تشكّل العديد من الجوانب في حياتنا الرقمية من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي إلى الإعلانات المستهدَفة. في كل مرة يلِج فيها الشباب إلى تطبيقاتهم المفضَّلة أو ينشرون محتوى على المنصات الاجتماعية، يتركون وراءهم بيانات قيِّمة تُجمَع وتُحلَّل وغالبًا ما تُباع. ومع ذلك، وفقًا لاستطلاع أجراه «مركز بيو للأبحاث» عام ٢٠٢٢، أعرب ٧٩٪ من المراهقين في الولايات المتحدة عن قلقهم بشأن استغلال الشركات لبياناتهم الشخصية، وأنَّهم يعجزون عن التحكم فيها. يخلق هذا التباين بين استخدام البيانات واستيعابها شكلًا من أشكال هيمنة البيانات، حيث تتحكم الشركات الكبرى في معلومات المستخدمين، بينما يظل المستخدمون، وتحديدًا الشباب، دون دراية بمصير بياناتهم.

وتتفاقم هذه المشكلة في الدول النامية، حيث يفتقر العديد من الشباب إلى فرص كافية لتحصيل المعرفة الرقمية وإلى وسائل لحماية الخصوصية. وفقًا لتقرير «اليونيسف» لعام ٢٠٢١، فإنّ الأطفال والشباب في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل عرضة لإساءة استخدام البيانات بسبب ضعف قوانين حماية البيانات وقِلّة الرقابة التنظيمية. على سبيل المثال، في جنوب الصحراء الكبرى، وصلت نسبة الدول التي اعتمدت سياسات شاملة لحماية البيانات ٢٨٪ فقط مقارنة بـ٨٠٪ في أوروبا. ونتيجة للقفزة المفاجئة في استخدام الهواتف المحمولة والإنترنت في هذه المناطق، يخاطر الشباب بخصوصيتهم يوميًا دون الأدوات اللازمة ليفهموا بياناتهم أو لسيطروا عليها.

سنناقش في هذه المقالة كيف نستطيع أن نُمكِّن الشباب، خصوصًا في المناطق المُعرَّضة للخطر، من أن يستخدموا بياناتهم بطريقة واعية وأن يتحرروا من المشاركة الخامدة في العالم الرقمي. 
 

فهم ديناميكيات استخدام البيانات

استخدام البيانات عملية مُعَقَّدة تحدث في كل مرة نتفاعل فيها مع المنصات الرقمية وغالبًا ما تكون هذه العملية غير مرئية. عندما ينشئ الشباب حسابًا على تطبيق أو يشتركون في خدمة إلكترونية، لا يقدِّمون فقط بريدًا إلكترونيًا أو اسم المستخدم، بل قد يسلِّمون أيضًا معلومات مثل الموقع الجغرافي، وسجلات التصفُّح، وتفاعلاتهم على المنصة. تجمَع الشركات هذه البيانات لبناء ملفات شخصية مفصَّلة، تحتوي على معلومات لم يُفصِح عنها المستخدمون عن وعي. فعلى سبيل المثال، لا تكتفي منصات مثل «إنستغرام» أو «تيك توك» بتسجيل المنشورات والإعجابات، بل تُسجِّل أيضًا المدة التي يقضيها المستخدِم في مشاهدة منشور معيَّن، إضافة إلى الإعلانات التي تثير انتباهه، وحتى أوقات ذروة نشاطه على المنصة. تُعرَف هذه الممارسة بالتتبُّع السلوكي، وهو ما يغذي الإعلانات المستهدَفة وتوصيات المحتوى.

وتُعدُّ فضيحة «فيسبوك وكامبريدج أناليتيكا» من أشهر الأمثلة الواقعية على إساءة استخدام البيانات، عندما جُمِّعت بيانات شخصية لملايين من مستخدمي منصة «فيسبوك» دون علمهم أو موافقتهم. واستُخدِمَت هذه البيانات في الإعلانات السياسية للتأثير على الناخبين في دول عِدّة. ولم يدرك كثير من المستخدمين أنّ مجرد التفاعل مع اختبار قصير أو تطبيق على «فيسبوك» قد يمنح صلاحية الوصول إلى معلوماتهم الشخصية لجهات خارجية.

وعلى الرغم من أنّ هذه الفضيحة وقعت في سياق يشمل دولة متقدِّمة، إلّا أنّ مشكلات مماثلة تحدث في جميع أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، في بلدان نامية مثل كينيا، في ظلّ النمو السريع لاستخدام الإنترنت، وجدت دراسة أجرتها مؤسسة «موزيلا» عام ٢٠٢١ أنّ العديد من التطبيقات الشهيرة تجمع البيانات الشخصية دون موافقة مباشرة من المستخدمين، ممّا يُبرِز المخاطر التي تُهدِّد الشباب في المناطق التي تفتقر إلى سياسات تنظيمية لحماية الخصوصية.

ومع تزايد تأثير الذكاء الاصطناعي على التجربة الرقمية للبشر، من المهم أن يدرك الشباب أنّ نماذج الذكاء الاصطناعي تُدرَّب على كميات هائلة من البيانات، ولا سيما بياناتهم الشخصية. ومع غياب الرقابة، يمكن أن تُستخدَم هذه البيانات بأشكال تعزِّز التحيُّزات أو تنتهك الخصوصية. لذا، ينبغي على الشباب أن يُدرِكوا كيف تساهِم بياناتهم في بناء أنظمة الذكاء الاصطناعي، وعليهم أن يدعوا إلى الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، وأن يطالبوا بالشفافية في عمليات تدريب البيانات.

وبالتالي، إنه لأمر ضروري أن يدرك الشباب ديناميكيات جمع البيانات واستخدامها، لحماية خصوصيتهم وحقوقهم الرقمية. 
 

التحديات التي تعيق الاستخدام الواعي للبيانات

التعقيد في سياسات الخصوصية وفي اتفاقيات شروط الخدمة هو أحد أبرز العوائق أمام الاستخدام الواعي للبيانات. على سبيل المثال، تَنُصّ سياسة الخصوصية الخاصة بـ«إنستغرام» على ما يلي: ”نجمع ونستخدم المحتوى والمراسلات وسائر المعلومات التي تزوِّدها وقتما تستخدم خدماتنا“، ويشمل ذلك كل شيء من الصور التي تنشرها إلى بيانات وصفية مثل أوقات الاستخدام والموقع الجغرافي. اللغة القانونية المعقَّدة في مثل هذه الاتفاقيات في الغالب تصعِّب على الشاب العادي أن يدرك تمامًا ما الذي يوافق عليه. وكشف تقرير نشره (Common Sense Media) عام ٢٠٢١ أن ٩٪ فقط من المراهقين واثقون بأنهم يدركون سياسات الخصوصية التي يواجهونها، ممّا يجعل النسبة العظمى من المستخدمين غير مدركين لكمية البيانات التي يشاركونها.

ويزيد من تفاقم هذه المشكلة تفاوت القوى ما بين شركات التكنولوجيا والشباب. فالشركات الكبرى مثل «غوغل»، و«فيسبوك»، و«تيك توك» تستخدم خوارزميات متقدمة قادرة على معالجة كميات هائلة من البيانات، وتجمِّعها وتخزِّنها وتحلِّلها، وغالبًا ما تبيعها لجهات خارجية لأغراض إعلانية. ومعظم الشباب لا يعلمون مدى شمولية عملية جمع البيانات؛ فيعتقدون، بسذاجة، أنهم يستخدمون تطبيقًا مسليًا أو منصة اجتماعية دون أي تبعات.

ويُعَدّ التأثير النفسي لهذا الجهل عميقًا. فقد أظهرت الدراسات أنّ الشباب يشعرون بالإرهاق والعجز، عندما يدركون حقيقة حجم البيانات التي تُجمَع عنهم. وفي استطلاع أجرته عام ٢٠٢١، اكتشفت «اليونيسف» أنّ ٧٣٪ من المراهقين في دول عديدة، منها البرازيل وجنوب إفريقيا، شعروا بالقلق أو التوتر عندما علموا بكمية البيانات التي تُجمَع دون موافقتهم. 
 

تمكين الشباب عبر نشر المعرفة الرقمية بالبيانات

تُعَدّ البرامج التعليمية أساسية لتمكين الشباب من أن يفهموا كيف تُستَخدَم بياناتهم. وتشمل الحلول المطروحة إقامة شراكات بين شركات التكنولوجيا والمؤسسات التعليمية ليُعلِّموا الطلاب حقوقهم الرقمية عبر أنشطة تعليمية تفاعلية صمِّمَت وفقًا لحالات معيّنة. على سبيل المثال، بإمكان شركات مثل «غوغل» و«فيسبوك» أن تتعاون مع المدارس لتنظيم وِرَش عمل تتيح للطلاب اتخاذ قرارات واقعية بشأن خصوصيتهم. وأظهرت دراسة أجرتها (MediaSmarts) عام ٢٠٢٠ أن الطلاب الذين تفاعلوا مع محاكاة الخصوصية كانوا أكثر إدراكًا لتَبِعات مشاركة البيانات بنسبة ٤٠٪ مقارنةً بالذين اكتفوا بالقراءة عنها.

تبسيط سياسات الخصوصية أمر بالغ الأهمية أيضًا. إذ يحتوي العديد منها على مفردات قانونية تُربك الشباب وتحِدّ من وعيهم بحقوقهم. مثلًا يمكن أن تُبسَّط عبارة ”قد نجمَع ونعالج معلومات شخصية مثل الموقع الجغرافي“ إلى ”نستخدم موقعك الحالي لنعرض لك إعلانات مناسبة“. في المملكة المتحدة، قدَّم مكتب مفوِّض المعلومات (ICO) سياسات الخصوصية ملائمة للطفل عبر استخدام لغة أبسط. وبالإضافة لذلك، يمكن أن يرفع التلعيب (Gamification) من متعة وتشاركية تجربة اكتساب المعرفة الرقمية بالبيانات. فبإمكان التطبيقات أن تقدِّم مكافآت عند تأمين الحسابات وتعديل إعدادات الخصوصية، على غرار طريقة عمل تطبيق «دوولينجو» الذي يحفّز المستخدمين بالتلعيب. ومن شأن هذا أن يشجع الشباب على إدارة بياناتهم بفعالية، ويحوِّل تعلُّم الخصوصية إلى أمرٍ مسلٍ. 
 

دور الشباب في تشكيل سياسات تنظيم البيانات

للشباب دور محوري في تشكيل السياسات الخاصة بالبيانات والدعوة إلى استخدامها بمسؤولية. فهناك مبادرات شبابية في أنحاء العالم بدأت تكتسب زخمًا، وتُظهِر كيف يمكن للشباب أن يشاركوا في النقاشات المتعلقة بحوكمة البيانات بفعالية. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تُشرِك منظمة «منتدى مستقبل الخصوصية» الطلاب في صياغة السياسات المتعلقة بالخصوصية الرقمية. وبالمثل، يُوفِّر منتدى حوكمة الإنترنت للشباب (Youth IGF) والذي يُعَدّ مبادرة عالمية منصاتٍ للشباب تتيح لهم المساهمة في مناقشات حول حوكمة الإنترنت، والخصوصية، والأمن الرقمي.

ويظهر في الاقتصادات النامية عدد من القادة الشباب الذين يتركون أثرًا ملموسًا. في كينيا، ساهم برنامج «آجيرا الرقمي» (Ajira Digital) في تمكين الشباب عبر تدريبهم على المهارات الرقمية ومنحهم أدوات للمشاركة الفعّالة في الحوار المتعلق بسياسات البيانات. وتعكس هذه المبادرات دور «الجيل زد» في طرح أفكار جديدة للتعامل الواعي مع البيانات، وتعزيز مبدأ الشفافية والمساءلة.

وللمشاركة بفعالية في صياغة السياسات، يمكن للشباب أن يتعاونوا مع صنّاع القرارات عبر المشاركة في المشاورات العامة، والانضمام إلى مجموعات المناصرة الإلكترونية، والتعاون مع منظمات معنية بالحقوق المُتعلِّقة بالبيانات. وتوفِّر منصات مثل «البرلمان الأوروبي للشباب» فرصًا لرفع صوت الشباب والمشاركة في صياغة السياسات التي تضمن الشفافية وتصون الحقوق الرقمية. 
 

الخاتمة

يُعَدّ الاستخدام الواعي للبيانات أمر لا غنى عنه في عالمنا الرقمي المعاصر، إذ يساهم الشباب في مشاركة الكميات الهائلة من البيانات الشخصية التي تُجمَع. إذا فهموا آليات جمع البيانات واستخدامها، سيتمكَّن الشباب من الانتقال من دور المتلقي الخامد إلى المشارك الفاعل في الفضاءات الرقمية. ويكمن الحل في التعليم لذا يجب على المدارس وشركات التكنولوجيا أن يتعاونوا لنشر المعرفة الرقمية المتعلقة بالبيانات من خلال التعلُّم التفاعلي، وتبسيط لغة سياسات الخصوصية، واستخدام أدوات محفِّزة مثل التلعيب. 

كما أن للشباب دور أساسي في تشكيل مستقبل حوكمة البيانات عبر المشاركة في جهود المناصرة، والتأثير في السياسات، والتعاون مع صنّاع القرارات. وهذا يعزِّز الشفافية والمسؤولية في استخدام البيانات. بفضل وعيهم ومشاركتهم النشطة، يمكن للشباب أن يسهموا في بناء عالم رقمي يصون حقوقهم ويحمي خصوصيتهم بالكامل.

 

المراجع

 

  1. Ajira Digital Program, "Youth and Digital Skills in Kenya," 2021.
  2. Common Sense Media, "Privacy Risks for Teens," 2021.
  3. Future of Privacy Forum, "Youth Privacy Advocates Program," 2022.
  4. MediaSmarts, "Interactive Privacy Education," 2020.
  5. Mozilla Foundation, "Privacy Concerns in the Global South," 2021.
  6. Pew Research Center, "Teens' Concerns About Privacy in a Digital Age," 2022.
  7. The Guardian, "The Cambridge Analytica Scandal," 2018.
  8. UNICEF, "Children's Data Protection in the Digital World," 2021.


تمت إعادة نشر هذا المقال وفقاً لرخصة المشاع الإبداعي - Creative Commons، للإطلاع على المقال الأصلي.